القوة الناعمة- من الإقناع إلى الهيمنة الثقافية و السيطرة

حتى مشارف الحرب العالمية الثانية، كانت القوة العسكرية الصلبة هي العامل الحاسم الوحيد في تحديد قدرة الدول والشعوب على صد الاعتداءات، وتحقيق أهدافها الاستراتيجية، والفصل في النزاعات والحروب الدائرة.
إلا أن العالم بأسره سرعان ما أدرك التكلفة الباهظة للحروب مقارنة بالسلام، وأهمية الدبلوماسية في إدارة الصراعات بدلاً من إشعال فتيل الحروب، لا سيما في ظل التوازن المرعب الذي طبع الصراع بين القطبين: الاشتراكي والرأسمالي. هذا التوازن تجسد في المواجهة التي شهدتها حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية، حيث أدرك عدد كبير من المفكرين والإستراتيجيين أن تحول هذا الصراع إلى حرب شاملة سيؤدي إلى تدمير العالم برمته.
للقنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما وناغازاكي كان أثر بالغ، تجاوز حدود اليابان ليصل إلى جميع أنحاء العالم، مما دفع الدول إلى الاستعداد والتهيؤ لمرحلة ما بعد الحرب، التي تحولت بدورها من حرب ساخنة إلى حرب باردة شاركت فيها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي ومعسكراتهما المتحالفة.
على الرغم من أن التوظيف الفعلي للقوة الناعمة يعود إلى حقبة الحرب الباردة، فإن تاريخ الأمم والشعوب، بل تاريخ البشرية جمعاء، عرف هذا المفهوم منذ فجر التاريخ، من خلال الأديان والأساطير. لعبت الأديان والرسالات السماوية دوراً محورياً في تجسيد هذه القوة، معتمدة على الحوار والتواصل والإقناع، ومخاطبة العقل والوجدان معاً.
وإذا كانت الحروب التي أوقدتها الصراعات الإنسانية عبر التاريخ لم تجلب سوى الخراب والدمار والعنف المتزايد، كما قال "روني جيرار"، فإن العنف لا يولد إلا العنف، بينما الحوار البناء يؤدي إلى السلام، خاصة إذا كان مبنياً على العقل والقلب معاً.
الحرب الباردة شهدت تصاعداً في المناوشات وسباق التسلح بين القطبين العالميين، إلا أن القوة المادية لم تستخدم إلا في مناطق جغرافية خارج نطاق القطبين، كما حدث في الحرب الأفغانية وكوبا، أو من خلال دعم الحلفاء ومضايقة الخصوم من خلال عمليات استخباراتية سرية، تسعى جاهدة لإخفاء آثارها على الساحة الدولية.
لم تكن هذه العمليات الخفية منفصلة عن الدعاية والإعلام، وعن صناعة الرأي العام والتأثير فيه في كلا المعسكرين، من خلال وسائل الإعلام والتلفزيون، والسينما، ومختلف المجالات الثقافية والفكرية والفنية، من الكتب والمجلات إلى المسرح والفنون التشكيلية. اشتدت حدة الصراعات الأيديولوجية وتحولت إلى محفز قوي لأطروحات كل قطب.
وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال التأثير الكبير للدعاية والإعلام الغربيين، اللذين أسهما بدور فعال في صناعة "البروسترويكا" مع غورباتشوف، وإعادة البناء التي مهدت الطريق لتفكيك الاتحاد السوفياتي، كما سهلت سقوط جدار برلين في عام 1989، وهو العام الذي بدأ فيه العالم إعادة ترتيب أوراقه بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي أصبحت شرطي العالم الجديد الأوحد، ليتحول عقد التسعينيات إلى عصر القوة الناعمة بامتياز.
مع بداية التسعينيات ونهاية الألفية الثانية، اشتد الجدل حول مفاهيم جديدة تنبئ ببداية عصر القوة الناعمة، حيث أصبحت الصناعات الثقافية تلعب دوراً محورياً في تخفيف حدة الصراعات والحروب، وتوجيه العقول والأذواق والاتجاهات نحو ترسيخ قيم الرأسمالية والليبرالية وثقافة الاستهلاك، والاعتراف بأحقية الغرب في تمثيل قيم التقدم والرفاهية والسعادة الإنسانية.
أصبحت الرأسمالية تمثل نهاية المسار التطوري للبشرية، وأنجح نموذج ابتكره العقل البشري، وما على الشعوب الأخرى سوى الانخراط الطوعي في هذا النموذج.
برزت مفاهيم مثل "نهاية التاريخ"، و"صراع الحضارات"، و"ما بعد الحداثة"، وغيرها من المفاهيم المرتبطة بما يسمى "ما بعد الحداثة". مهمة الغرب، وفقاً لهذا المنظور، هي تفكيك الأنساق الثقافية للحضارات الأخرى غير الغربية، بهدف إعادة بنائها ودمجها قسراً في النظام الغربي.
في هذا السياق، صدر كتاب "نهاية التاريخ" للمفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما عام 1993، بعد أن كان في الأصل مقالاً نشر في مجلة "ناشونال إنترست". يرى فوكوياما أن الديمقراطية الليبرالية هي أرقى ما وصل إليه الفكر الإنساني، حيث استطاعت تجاوز نقاط ضعف النماذج الفكرية والسياسية السابقة، التي أثبت التاريخ فشلها، وأن الليبرالية في الاقتصاد والسياسة تمكنت من ترسيخ مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والفردية.
لذلك، فهي تمثل "الإنسان الأخير" الذي بشر به نيتشه في "إرادة القوة"، وما يعنيه ذلك من انتصار على الطبيعة وتأليه للإنسان الذي أصبح سيد نفسه.
بما أن التاريخ الذي انتهى بالإنسان الأخير هو نتاج لتطور العقل البشري المدعوم بالعلم والمعرفة، فهو يمثل مرحلة ما بعد الحداثة. ومع ذلك، لم يقم فوكوياما بتفكيك الحداثة نفسها، ولا فكر ما بعد الحداثة في إقصائه للإنسان، وتحويله إلى مجرد مستهلك وخاضع لهيمنة التكنولوجيا، في تجاهل تام للأخلاق وتكريس لتفوق الحضارة الغربية على باقي الحضارات. سرعان ما انتقد عدد كبير من المفكرين والفلاسفة من الشرق والجنوب، وحتى من الغرب نفسه، مشروع فرانسيس فوكوياما، الذي كان يمثل المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية.
الأمر الذي أدى إلى صدور كتاب صامويل هنتنغتون "صراع الحضارات" عام 1993، الذي جاء للرد، بشكل مباشر أو غير مباشر، على الانتقادات الموجهة لمشروع "نهاية التاريخ" الأيديولوجي، الذي كان يهدف إلى تسريع الانخراط الطوعي أو القسري لباقي الأنظمة الفكرية والثقافية، خاصة في بلدان الجنوب والشرق، التي تحولت في مشروع صامويل إلى عدو مفترض.
يفترض هنتنغتون أن الصراعات القادمة لن تكون بين الدول القومية الكبرى في الغرب، في ظل وجود روسيا كوريث للاتحاد السوفياتي، بل ستكون بين الحضارة الغربية (حضارة العقل والتقدم والحرية والديمقراطية والإنسانية) والحضارات الصينية واليابانية والإسلامية والهندية والأفريقية والأرثوذكسية.
دون أن يقدم تفسيراً منطقياً لأسباب هذه الصراعات وربطها بالاقتصاد والمصالح والهيمنة والاستغلال، لجأ هنتنغتون إلى مفهوم الثقافة، مدعياً أن ثقافات هذه الحضارات تتعارض جوهرياً مع الثقافة الغربية، وأنها تعارض قيم الحرية والديمقراطية والكرامة والإنسانية وحقوق الإنسان.
في حين أن الصين تمثل النمر الآسيوي والمنافس الاقتصادي الأول للولايات المتحدة، والمطالبة بنظام عالمي متعدد الأقطاب، فإن هنتنغتون يسعى لخلق عدو وهمي يتمثل في الحضارة الإسلامية، بمعنى أن كل الدول الإسلامية التي تقاوم المشروع الأمريكي الرأسمالي الاحتكاري والإمبريالي هي عدو مفترض.
لذلك، رفعت السياسة الخارجية الأمريكية في عهد جورج بوش الابن عام 2001، شعار "إما معنا أو مع الإرهاب"، لتبرير الحرب على الإرهاب في العراق وأفغانستان، وكأن الإرهاب مرادف للإسلام والبلدان الإسلامية، في حين أن الإرهاب ظاهرة عالمية تتجاوز الجنسيات والأديان والقوميات، على الرغم من أن تعاليم الإسلام هي السلام والأمن والرحمة للعالمين.
هكذا، قام المحافظون الجدد، عبر مفكريهم وإعلامييهم، بصناعة عدو مفترض هو الإسلام، وصاغوا خططاً استراتيجية لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، وهو ما تجلى في السياسات الحكومية للبلدان الغربية، التي أسهمت في ارتفاع موجات الإسلاموفوبيا ودعم اليمين المتطرف.
الجديد في هذه الخطط الاستراتيجية هو اعتمادها على أساس غير مادي، يتمثل في تعويض القوة العسكرية بالقوة الناعمة، قوة الثقافة. وجدت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية ضالتها في الصناعات الثقافية، خاصة الإعلام والكتب والسينما والفنون، لتغيير العقليات والتوجهات، وغرس فكرة تفوق الثقافة الغربية وأحقيتها في نقل الشعوب المتخلفة والفقيرة بسبب ثقافتها ودينها من التخلف إلى التقدم، ومن الاستبداد إلى الديمقراطية.
في هذا السياق التاريخي، أصبح مفهوم القوة الناعمة من المفاهيم الأساسية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية. وعلى الرغم من أنه جاء ليعوض القوة العسكرية، بشعاراته الجميلة ذات العمق الإنساني والحضاري، إلا أن دلالته في الواقع تجعله مرادفاً للإكراه، في الوقت الذي يجب أن ينتصر المفهوم للتثاقف والحوار العادل بين الثقافات والتعارف والصداقة. أصبح يعني في المعجم الغربي التبعية والطاعة والسيطرة، ولكن بوسائل ناعمة.
يرى أوستين ربيني وكارل فريديريك، من أبرز الباحثين في مجال القوة الناعمة، أن هذه الأخيرة تعني علاقة تبعية بين من يملك القوة المادية ومن لا يملكها، وهي القدرة على الجذب والضم، كما يقول جوزيف ناي، المفكر الذي صاغ مفهوم القوة الناعمة، بوصفها القدرة على التأثير في الرأي العام وتغييره بطرق غير مباشرة.
هكذا، أصبحت مجالات المناورة الدبلوماسية والمدنية مجالات خصبة لحرب جديدة: حرب صامتة ذات نتائج غير مسبوقة. تحولت مجالات المرافعة المدنية والدبلوماسية من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية والأقليات إلى آليات وقوة جديدة، حيث تراجعت القوة العسكرية لتحل محلها القوة الأخلاقية، باعتبارها قوة المدنية والإنسانية والحرية، حتى وإن كان هذا التحول جزءاً من الدعاية والمناورة لصناعة الرأي العام وتغيير التوجهات، من خلال توظيف التعليم والمناهج الدراسية والفنون والثقافة، وباختصار، توظيف وسائل سلمية للسيطرة على العقول وتوجيهها، بحيث تصبح التبعية الثقافية والفكرية أحد أوجه هذه القوة، عبر التأسيس لمفهوم الطاعة الدولية.
هذه الطاعة تشكل علاقة السيد بالمملوك في العلاقات الدولية، وفقاً لمفهوم الهيمنة الثقافية الذي أشار إليه أنطونيو غرامشي في كتابه "رسائل السجن"، حيث أكد أن الهيمنة الرأسمالية تتم من خلال مؤسسات مثل المدرسة والكنيسة والصحف، التي تخلق صورة جيدة لدى العامة عن النخبة الرأسمالية، بهدف السيطرة على عقولهم وضمان عدم خروجهم عن سياق المجتمع الرأسمالي.
إذا كان الأمر يتعلق بالقدرة على الإقناع والجذب والتعبئة، من خلال آليات الدعاية والتسويق والإعلام والعمليات الرمزية ذات الصلة، والتي تجد آلياتها العملية في مختلف الصناعات الثقافية، من صناعة الكتب والصحف والمجلات والسينما والدراما والتلفزيون والألعاب الإلكترونية، يصبح من الضروري في السياق العربي والإسلامي امتلاك آليات واستراتيجيات هذه القوة، والعمل على دعم الصناعات الثقافية وإغناء الترجمة ودعمها في سياق الدفاع عن أحقية الحضارة العربية الإسلامية في الدفاع عن القيم الكونية، وفي مساهمتها في الحضارة الكونية، وفي الهجوم الرمزي أيضاً على تشويه صورة الإسلام والمسلمين من خلال صناعة محتويات ثقافية موجهة للمتلقي الغربي، محاولة إقناعه وتوعيته بمخاطر أوهام المحافظين واليمين المتطرف، وتوضيح انحرافات ما بعد الحداثة في صناعتها النيوليبرالية لعدو وهمي لا وجود له إلا في عقول بعض المفكرين الذين يزيفون التاريخ ويوهمون الناس بخطر لا وجود له، إلا في تحويل الإنسان إلى مجرد مستهلك لآلة السوق النيوليبرالية.
في ظل أفول الحداثة وتراجع قيمها، وفي ظل ضعف خطاب ما بعد الحداثة، يزداد الغرب حاجة إلى نقد وتحليل الأسس المعرفية للمركزية الغربية، وتخصيبها بالقوة الناعمة الأخلاقية.
يتجلى ذلك في إسهامات عدد كبير من الفلاسفة الغربيين. أعتقد أن الثقافة العربية الإسلامية، بما تملكه من مرجعيات ثقافية وأخلاقية ودينية، قادرة على إصلاح الحداثة وتجاوزها، والانتصار للإنسانية التي تسمو فوق الجنسيات والأعراق والدول والأديان.
الصراع الحقيقي ليس بين الحضارات (العربية والإسلامية والصينية والهندية وغيرها)، لأن الحضارات هي أسمى إبداعات الإنسان، وليس بين الثقافات التي تسمو على المادة وتعانق الروح، بل بين الاستهلاك والتسليع، والقيم التي حولت الإنسان إلى مادة، وبين الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وهي القيم التي تسمو بالإنسان من بعده المادي إلى أبعاده الروحانية، وهي قيم كفيلة بتحقيق سعادته وكرامته. في هذا الصراع يجب أن يتحد البشر لهزيمة الاستغلال والاحتكار والاستعباد.